وحيداً

وضاعت الأيام منه سدى، والسنونو غادرت أعشاشها، والعيون أُغمضت والساهرين غفوا، والعصا السحرية تعطلت منذ زمن، والجداول جفت ولم يبق له من هذه الأيام سوى الموت سيحيا له، لن يواسيه أحد في سكراته، فالماضي الجميل تخطاه، دون أن يحس بجماله، والفراش الدافئ برد، من غير إرادته، فالقدر التعيس لا يقوى أحد عليه.
كم مضى عليه من الوقت لم يغادر منزله، حتى أن الأرائك ملت منه، والستائر السكرى تعبت من حجب النور و باخ لونها، وفنجان قهوته المفضل لديه، لم يعد يهوى لمسة يديه، وملابسه عشقها الغبار وتغلغل فيها، والنافذة اليتيمة تخلت عنه في أفكاره، فلم يعد يقف أمامها، كان كلما شاهد منها حديقة منزله بكى، من ذكرى أولاده الذين كانوا يلهون بها، وتذكّر كم سار بين زهورها بجانب زوجته التي كان يحبها لدرجة أنه كره الموت الذي خطفها منه، ولكنه لا يستطيع أن ينكر واقعا سيحدث له كما لكل الناس، وينتظره كما لو كان يريد الانتقام منه، ودون أسلحة، فهو ينتظره أعزلا.. وحيدا.
كم تعيسة هي حياتُه، فكم شم عبق الزهور غاضّا بصره عن أشواكها، وكم تأمل في القمر ولم يرَ سواد السماء، وكم احتسى الخمر في تلك الحانة المرمية على حوافِّ الأخيلة علّه يسلو وما سلى، و الآن ما عاد يدري أهو يمضغ التبغ أم أن التبغ يحرقة؟!.. أهو يرسم القدرَ أم أنّ القدر يغرقه؟!..وإلى متى سيبقى يجترّ كآبته وذاك السؤال يمزقه؟!.. ، لطالما سأل نفسه:
"أنا من أكون، أنا! ما أنا؟! أولدت لأكمل بقية سنيّ عمري يائسا؟! ألست أنا من كان يقول: هذه الكون باتساعه يدور حولي.. والأيام تجري لأجلي.. والشهب تنزل من السماء لتشاركَني سهراتي.. والقمر يسهر ليشاطرني أحزاني.. والعصافير تغرد لتنسج ليَ الأغاني.. والعيون وجدت لتراني؟!.."
مثل هذه الأسئلة من علامات اقتراب الأجل، حين يصبح الإنسان عاجزا عن العطاء، فيقبع -ولو كان على قمة جبل- كأنه في قاع بئر عميقة، لم يستطع ولن يستطيع تغيير رسم خارطة حياته، ولا يدري من رسمها له.
تلك الليلة لم يدرِ ما جرى لعقله، ولمَ كانت الأفكار تزاحم فيه، كان نائما فترة الظهيرة ولم يستيقظ حتى العاشرة ليلا، استيقظ من حلم لم يكن يريد له أن ينقطع، ولكن رغم انقطاعه وعدم معرفته لنهايته أو استطاعة أن يتخيل ذلك، وجد أن هذا الحلم قد غير في تفكيره شيئا ما، ولكن للأسف لم يستطع أن يجعله مشرقا، واعدا بأمل جديد، فقد غير أفكارَه من فراشة تحوم حول الزهور غير قادرة على امتصاص رحيقها، إلى يأسٍ يمتص الرحيق ولكنه لا يستطعم به، وإنسان لم يعد يعلم ماذا يفعل في حياته اليائسة تلك، فهي لا تنتظر منه شيئا، فلماذا يحيى؟!..
في ذلك الحلم، تخيل وكأنه يجلس بين أولاده الذين طال انتظاره لهم، وأنه رغم فرحه العارم بينهم، وليسوا هم فقط بل وزوجته، كأن الموت قد أعاره إياها قليلا، كان يخاف تصديق ما يراه، في الوقت نفسه الذي تمنى فيه أن يستيقظ في فراشه ويراهم حوله فعلا، ولكنه عندها لم يأبه بعقله الذي كان يعلم أن ما هذا سوى حلم، عندها كان لا يسمع سوى روحَه التي تخبره بالغبطة والفرح اللذان يغمرانها، وتحدثه عن رحلة إلى أعماق أعماق السرور والحبور، ولكن.. هو ذو القدر التعيس، أبى قدره إلا أن يستيقظ عندما مد يده في الحلم ليمسح جبين زوجته...
استفاق من الحلم ليبدأ عقله بنسج الكلمات والآراء، وأول كلمة راودته هي (سحقا) ،ليتني تأخرت قليلا على النوم لأستيقظ ولو بتأخير دقيقة واحدة عن الآن...
من شدة نشوته بحلمه، لم يستطع عقله إلا أن يوافق روحَه عندما أمرته بقتلها، فلماذا سينتظر الموت ليهديه زوجته؟! قرر أن يهدي روحه للموت...
مشى بخطوات متهكّمة ليأخذ السمّ عن الطاولة دون تردد هذه المرة، تناوله كله، وعاد إلى فراشه بسرعة، تمدد فيه بسلام.. وانتظر أن يكتمل حلمه ويتحول إلى حقيقة... .